-
لا ماءَ يَرْويها "نجاة عبد الصَّمد".. عَطَشٌ يَبْكي عَطَشاً
تنهي نجاة عبد الصمد نَصَّها "لا ماءَ يَرْويها" بعطش: "زُرْني ولو غِبّاً زُرْني"، كما بَدَأَتْهُ بعطش حين كانت رشفة ماء من خابية "زين المحضر" الشاهدة على حبها وحافظة سرها تكفيها.
حين طُردت حياة من بيت زوجها خليل أحست أن المدينة -كل المدينة- لها وحدها، هامت على وجهها نحو بيت أهلها لتخترقها نظرات أمها ويخزها البرد وهي تعد الدرجات المفضية إلى مستقرها ومنفاها الأخير في "غرفة الكَرَش" غير بعيد عن بيت ناصر الذي استبشرت أمها خيراً حين ارتطم رأسها في إحدى عواميده وسال دمها في إشارة إلى أنها ستكون عروساً فيه.
حياة التي كَرَّتْ عبر حكايتها سبحة حكايات لفضاء متسع لكنه يخنق، فضاء تجثم صخوره على بركة ماء لكنه عَطِشٌ، فضاء لطالما كانت المرأة نصفه وأكثر، قيدومه وأكثر، ملهمته وأكثر، محاربة من أجله وأكثر، مربية لأبنائه وأكثر، لكنه لطالما كتم حبها، وحبس أحاسيسها، وأسكت دقات قلبها.
لم يكن النص متخيلاً ولا شطحة ولا استرسالاً، بل واقعاً مُعاشاً وملموساً، المكان معروف ومصرح به والزمان تشي به الحكايات والأحداث، ولم يكن السرد غريباً عن أبناء بيئته، حتى ليكاد القارئ يعثر في حكايا شخصيات النص على حكايا أناس يعرفهم ويعرف قصصهم، ورغم محلية النص وخصوصيته، استطاعت الكاتبة من خلال لغتها الدافئة وعرضها الإنساني نقله من البيئة المحلية إلى بيئة أكثر اتساعاً مكرسة مشروعاً روائياً بدأنا نتلمس ثمراته منذ "بلاد المنافي".
ولئن كان السرد هو الحامل الرئيسي للنص الروائي، إلا أن ذلك لم يشغل الكاتبةَ -في كثير من المراحل لا ندري إذا كانت قاصدة أم لا- عن إغنائه بمنمنمات شعرية زادته إبداعاً:
"على لسان حياة لأبيها في مشهد متخيل:
هل عيناكَ سوداوان كالظلم
أم بنيتان كالأمان
أم رماديتان غامقتان كالأسى؟"
ومعقبةً على هدية أرجوان:
"عَبَقُ الغارِ طَيِّبٌ...
كيف هي إذاً رائحةُ الحُب؟"
وبعد أن قرر خليل أن يطلِّق حياة لأنها كانت تتمنع عنه:
"كلُّ الطُّيورِ تُصْطادُ من أجْسادِها
إلا طيورُ القَطا
من أمومَتِها تُصْطاد"
وعلى لسان ممدوح:
"بينَما هي مَعي
هذه الباريسيةُ الحلوةُ كحَبَّةِ زَبيبٍ
أتوقُ لكلِّ كتفٍ عاريةٍ تتغنَّجُ في أسواقِ الصَّالحِيَّة"
جسدت حياةُ البلدَ حجراً وبشراً، كانت كمسيح تلقَّى كل نصال القهر والظلم والهيمنة والإنكار على خشبات بيئة قاسية عطشى للماء وللحب، وتناثرت حولها الحكايات التي عرضتها الكاتبة بنهم شديد للسرد على طريق جلجلة مليء بالأشواك نحو إخفاء قسري وموت مؤجل، ولم تبخل الكاتبة على أي من شخصيات النص في نبش تفاصيل تجعل كل منها ترقى لتكون مشروع رواية منفصلة، تضافرت جميعها عبر حبكة طيعة تليق بنص رصد كل هذا الألم بكل تلك الحنكة والجمال.
في "لا ماء يرويها" لَوَّحَتْ نجاة عبد الصمد بكل جرأة، غير آبهة بأية عقابيل، بمفاتيح التاريخ قَصْدَ نفض الغبار عن المسكوت عنه، وقرعت أجراس العسف الذي لحق ولازال بالمرأة قَصْدَ رفعه عن رقاب الحرائر، ونصبت المرايا في الدروب قَصْدَ أن يرى كل جاهل وظالم في فضتها سواده، قرأت المرأة كما ينبغي أن تُقْرَأَ عبر حياة التي غاب عنها ناصر حين كان ينبغي أن يحضر وحضر حين كان يجب أن يغيب، ناصر الذي حين مد ناصر يده لينتشلها من عذاباتها، رفضت أن تهرب معه من عطشها.
ليفانت: نزار غالب فليحان
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!